الرئيسية / الرئيسية / نفيسة بوزيد حياة من الابداع
لوحة لنفيسة بوزيد

نفيسة بوزيد حياة من الابداع

بقلم :د .عز المغرب معنينو

د .عز المغرب معنينو
د .عز المغرب معنينو

 نفيسة بوزيد: من مواليد حي الطالبية العتيق بمدينة سلا سنة 1945م، تلقت تربيتها الأولى في الأذكار الصوفية والفن النسائي الأصيل على يد والدها الفقيه محمد بوزيد ووالدتها أم هاني لحرش وجدتها التي غرست فيها عشق الطرز والخياطة وصنع العرائس من القصب. إلتحقت نفيسة بمدرسة الشراطين للبنات بسلا وقد ظهر ميولها للفن التشكيلي والرسم في هاته الفترة حيث كانت ترسم في المجلة الحائطية للمدرسة، وبمدرسة الشاطئ بحي الرمل الذي كان يضم سكان الجالية الأوربية زمن الحماية بسلا، وبعدها تابعت دراستها بثانوية عمر الخيام بالرباط، ثم حصلت على شهادة الباكلوريا التقنية من ثانوية اليوطي بالدار البيضاء، تميزها الدراسي خول لها الحصول على منحة لمتابعة دراستها العليا بمعهد الفنون الجميلة بباريس، وبمدينة الأنوارنالت دبلوما في تاريخ الفن وآخر في تصميم الأزياء، كما أنجزت دراسة فنية عميقة حول اللباس المغربي القديم بصفة خاصة والعربي بصفة عامة، إكتسابها لخبرة ميدانية في تصميم الأزياء الأوربية الكلاسيكية، أهلها للاشتغال مع عدد من مصممي ملابس عروض الأزياء ورجال المسرح والابرا والموضا المشهورين بفرنسا وإيطاليا، وأثناء مسارها الفني هذا تعرفت نفسية على أحد هواة جمع التحف النادرة، والذي كان يحتفظ بثلاثة عروش ملكية قديمة لملوك أفارقة، زينت بكاملها بحبات عقيق متعددة ألوانها القريبة إلى ألوان الطبيعة وقوس قزح، بريقه وإشعاعه أبهرها وأثر فيها كثيرا، وجعلها تعشق هذه المدرسة التراثية الأصيلة، كيف لا وحبات الجوهر الحر اكتشف الإنسان جمالها الساحر منذ الزمن الغابر، وغامر بالغوص في أعماق البحر لاستخراجه من الصدفيات التي تخزن في باطنها حبات اللؤلؤ الحية، والتي ترصع بها تيجان الملوك والعرائس وتزين نحور وصدور النساء في تصاميم مبتكرة ترضي اختلاف الأجيال وأذواقها، وتجعلهن يشعرن بجمالهن وأناقتهن المتميزة. ويعتقد منذ القديم أن العقيق الحر يحمي صاحبه من الأشياء السلبية ويمنحه الطاقات الإيجابية.

لوحة للفنانة نفيسة بوزيد

حب نفسية لهذا الفن اللامحدود جعلها توظف حبات العقيق في معظم لوحاتها التشكيلية الأمر الذي حفزها بعد قضاء حوالي اثنتي عشرة سنة في أوربا، أن تقرر الانفصال عن عالم الفن والموضا والمال وهي في أوج عطائها، والعودة إلى مسقط رأسها سلا العتيقة، لتعيش مع أسرتها وتتمتع بدفئ حضن والديها وخدمتهما، في هذه الأجواء الحميمية تفرغت في عشق صوفي للوحاتها. فقد كانت الفقيدة تنتقل إلى سوق درب عمر بالدار البيضاء لتشتري أجود أنواع  حبات العقيق، وتضعه في الماء الساخن  لتتأكد من ثبات ألوانه، وأحيانا تقوم بصباغته بمواد طبيعية حسب ذوقها الفني، وكانت تستلهم ثيمة مواضيع لوحاتها من التراث المغربي المتنوع مع النبش في ذاكرة محيطها السلوي الأصيل، مركزة على شخصية المرأة ومظاهر أنوثتها في الأفراح والأحزان بمختلف تجلياتها، تتناغم ضمنها الأشكال مع المضامين لتعكس بمادة العقيق ألوانا زاهية وراقصة تخيم عليها ألوان السلام والإيخاء، مثل الأخضر والزهري والبنفسجي والبرتقالي والأحمر القاني والوردي…صلابة هذا الحجر البراق تتغير دوما بفعل الحرارة وأشعة الشمس، مما يجعل اللوحة تغير لون ملامحها مع تبدل الفصول والمواسيم، ويتجلى ذلك في لوحاتها (اللباس التقليدي والأزياء الفلكلورية الحضرية والبدوية، وأشكال معالم التراث المادي من أسوار وأبواب وأبراج وزليج …والمناظر الطبيعية من أزهار ومروج وغيرها).

نفيسة بوزيد
الفنانة نفيسة بوزيد

كما وظفت الفنانة نفيسة الخط العربي في بعض أعمالها، لتضفي على لوحاتها دلالات صوفية وجمالية روحية، واستعملت أيضا مادة النحاس المطبوخ في فرن جلبته من فرنسا، والصدفيات البحرية في رسم بعض لوحاتها…وبالموازاة مع ذلك كانت مرجعا وملهمة في خياطة مجسمات من أثواب متنوعة تجسد بها أشكال عرائس صغيرة الحجم تحاكي ما علق بذاكرتها من أزياء المرأة السلوية زمن طفولتها، بل كان بيتها محجا لأهالي الفتيات المقبلات على الزواج لمساعدتهن على إعداد جهاز العروس “الشوار” وتصميم وخياطة قفاطين البرزة يوم زفافهن، وكسوة الخرجة العصرية بثوب الدانطيل الشفاف، لتمزج بخبرتها الفنية بين الأصالة والمعاصرة.

تعتبر الفنانة نفيسة عميدة الفنانين التشكيليين بسلا، وقيدومة فن الرسم بالعقيق في المغرب والمسمى بفن المنمنمات المشهور بإيران والعراق وغيرهما، كانت سيدة المنمنمات تعمل في الخفاء وبنفس طويل، تبدأ عملها في الصباح بتصميم الملابس النسائية وخياطتها حسب الطلب والمناسبات من أجل توفير موارد مالية لتغطية نفقة الإنتاج الفني للوحاتها التشكيلية، وفي الزوال تتفرغ إلى رسم لوحاتها بحبات العقيق الصغيرة، وأحيانا عملها يستمر إلى منتصف الليل بدون كلل، عمل إبداعي  دقيق يتطلب الصبر والتركيز، فاللوحة الواحدة تتطلب منها قضاء أسابيع وشهور وأحيانا سنوات حتى تنتهي من إنجازها كاملة، عندها تحتفل بنهاية العمل صحبة والديها بالذكر الصوفي، وبعد وفاتهما كانت تحتفل وحيدة بشرب الشاي والحلويات وهي تغني وتدندن بما جادت به قريحتها وبكل اللغات حسب البديهة.

عشق نفيسة للوحاتها وارتباطها الحميمي بما أبدعته يديها جعلها ترفض في غالب الأحيان بيع لوحاتها، وتعتبرها بمكانة أطفالها، لذلك كانت تحس بالغيرة إذا انتقل مولودها الفني من أحضانها إلى حضن إنسان غريب مهما كان الإغراء المادي. وهذا هو الذي يفسر لنا تواجد كم هائل من أعمالها الفنية حوالي ثلاثمائة لوحة وقطعة فنية ببيتها حسب ما صرحت به …وبالتالي يعتبر بيتها ناديا ثقافيا مفتوحا في وجه كل هيئات المجتمع المدني وعشاق الفن التشكيلي عامة، فكل جدرانه مزينة بلوحاتها التي تشع بريقا، عمر بعضها حوالي خمسين سنة، أما بهو وسطح منزلها عبارة عن حديقة من المزهريات الغناء تضفي على بيتها لمسات فنية قل نظيرها.

لوحة من سلا
لوحة للفنانة نفيسة بوزيد

هذا لا يعني أن حياتها كانت منحصرة بين الرسم والخياطة والطرز… فقط، بل كانت منفتحة على مجتمعها السلوي، فمباشرة بعد عودتها من فرنسا تحملت مسؤولية في أول مكتب تنفيذي عند تأسيس “جمعية أبي رقراق” بسلا سنة 1986م ،بمبادرة من الفعاليات الثقافية بالمدينة، وكان لها إسهام كبير في بلورة وتصميم وإنجاز شعار الجمعية، إلى جانب إشرافها على تنظيم عدد من التظاهرات ذات الصلة بالفنون والرسم، كما كانت الفقيدة من مؤسسي جمعية إنقاذ تراث سلا “سلا تراثي” سنة 2017م،وفتحت بيتها بكل كرم كمقر لاجتماعات أعضاء الجمعية الفتية، فكانت عضوة نشيطة داخل الجمعية، ومناضلة شرسة في مجال الدفاع عن تراث سلا والترافع بشأنه، وترفض بصرامة كل عبث بالتراث الحضاري الإنساني خاصة المعمار السلاوي التقليدي النادر. شاركت المترجم لها في العديد من المعارض الفنية في سوريا والعراق وإسبانيا وبسلا والرباط وطنجة وغيرها، كما أقام على شرفها “نادي التاريخ “برئاسة الدكتورة الكاملة البيضاوية وبدعم من عمادة كلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط، حفلا تكريما على شرفها بمناسبة تخليد اليوم العالمي للمرأة يوم 16 مارس 2019م بقاعة محمد حجي. وفي بداية سنة 2020م أنجزت القناة التلفزية الثقافية الرابعة حلقة خاصة على شرف الفنانة نفيسة بوزيد ببيتها التحفة في إطار سسلسة برنامج “بنت بلادي”. وبعدها مباشرة أعلنت حالة الطوارئ الصحية لمواجهة انتشار وباء كورنا، عانت نفيسة أكثر من غيرها من الوحدة والعزلة داخل بيتها، وهي التي كانت بشخصيتها الشعبية المتواضعة تتواصل مع محبيها وهي تتجول بين دروب وأسواق سلا كل صباح، وبعد رفع حالة الطوارئ لوحظ عليها أثر ذلك على صحتها الجسمية والنفسية، وتدريجيا بدأت تبتعد عن نشاطاتها الفنية ولقاءاتها الجمعوية، ثم خضعت للعلاج الطبي المكثف برعاية أفراد أسرتها المقربين، إلى أن أسلمت روحها الطاهرة يوم الأربعاء 17 شعبان 1445ه /28 فبراير 2024م،ودفنت بمقبرة سيدي بلعباس بسلا.

معلومات استقيتها من بعض أفراد عائلتها، ومما دونه أصدقاؤها في حقها: جمعية إنقاذ تراث سلا “سلا تراثي”، وجمعية أبي رقراق، وجمعية سلا المستقبل، ونادي التاريخ، وبرنامج “بنت بلادي” الذي أعدته القناة التلفزية الثقافية المغربية الرابعة. وبرنامج على اليوتوب “من ألوان سلا” الحلقة السادسة إعداد وهيب معنينو. ومن خلال لقاءتنا العديدة التي جمعتني بها في الكثير من المناسبات والأعمال المشتركة.

                                                                                                                                                               د .عز المغرب معنينو

شاهد أيضاً

لوحة للفنان لبيض عبد الرحيم

نبذة عن سيرة الفنان عبد الرحيم لبيض

ولدت في سلا، مدينة ضاربة في التاريخ وغنية بالتراث الثقافي الذي يتخلل الحياة اليومية. تراث …

ضريح سيدي بنعاشر

ضريح سيدي ابن عاشروعلاقاته بالإسعاف الاجتماعي

بقلم ﭘول ﭬـالطون ترجمة محمد غرايب  عثرت بالصدفة على هذه الوثيقة القيمة عن ضريح سيدي …

لمحة عن التاريخ الديني والروحي لحاضرة سلا العريقة

بقدر ما تنغرس سلا عميقا في تربة التاريخ الحضري والعمراني والسياسي والاقتصادي والملاحي للكيان الوطني …

باب سبتة

مدخل لمعالم سلا

ليس من المغالاة في شيء القول بأن القرن العشرين ، كان قرنَ انبعاثِ سلا بامتيازٍ، …

جمعية سلا المستقبل تقدم كتابا يؤرخ للذاكرة الجماعية لسلا

بقلم فنن العفاني في لقاء ذي حمولة حقوقية وسياسية وثقافية، قدمت كل من جمعية سلا …