بقلم ﭘول ﭬـالطون
ترجمة محمد غرايب
عثرت بالصدفة على هذه الوثيقة القيمة عن ضريح سيدي الحاج بن عاشر، وكانت قد عرضت من قبل في المعرض الاستعماري بمرسيليا سنة 1922 ضمن مطبوعات المغرب لسنة 1921، وتخص هذه الوثيقة مصلحة الصحة والسلامة البدنية العمومية. وكانت المطبعة الرسمية للحماية قد سحبت منها 250 نسخة بما فيها النسخ المرقمة من 1 إلى 25، وهي نسخ خُص بها المؤلف ويدعى الدكتور بول فالطون؛ بينما تم بيع النسخ الأخرى المرقمة من 26 إلى 250 لفائدة الأعمال الخيرية للسيدة حرم المارشال ليوطي. ونظرا لأهمية هذه الوثيقة وندرتها قررت بهذه المناسبة المساهمة بها في هذا العمل المبرور خدمة للتاريخ الديني والاجتماعي السلوي.
نزل سيدي ابن عاشر سلا حوالي 1300م، وامتلك بها معرفة جيدة بأحوال التطبيب، وداوى الكثير من مرضى أهلها؛ ولما وافته المنية، حج العديد من أهل الأسقام إلى قبره طلبا للاستشفاء، وأقاموا بجواره مددا طويلة، فشاعت أخبار بركته، وقصدته جموع غفيرة من قبائل زعير والسهول وحصين وعامر؛ وتجاوز شهرته مدينة سلا، فعم صيته الآفاق، وشدت إليه الرحال من فاس ومكناس ومن قاصية المغرب الأخرى.
ولما زار المولى إسماعيل هذه المدينة في إحدى خرجاته حوالي 1810 ، القى باللائمة على أهلها لإهمالهم الواضح قبر هذا الولي، فأمر ببناء قبة له، وتوسط القبر الضريح، وكان ضريحا واسعا، يفصله حاجز خشبي يقسمه إلى جناحين أحدهما للنساء والآخر للرجال، وأنشأ بالمكان نفسه ستة وثلاثين عنبرا (بنيقة) لنزول الزوار، ورفع ثلاثة أكواخ لذوي العاهات من الذين يؤتى بهم مكبلين، ووضعت بهذه الأكواخ الثلاثة سلاسل وأغلال لهذا الغرض. وبعد ذلك بوقت غير يسير، أضيف للأكواخ الثلاثة كوخان جديدان. وبحلول سنة 1887، عمل القومة على المدينة على بناء قاعة واسعة اتخذوها منها مسجدا للصلاة، وحوالي 1908بادر أحد الأعيان السلويين، وهو مولاي أحمد الصابونجي، إلى دعم البناية الرئيسية بقاعة مستطيلة خصصت لإيواء الفقراء المعوزين من نزلاء هذا المكان.
يأتي هؤلاء الفقراء أساسا لتخفيف آلامهم والتعبد قرب الضريح، لذلك لا يغادرون الحجرة المعينة لهم؛ إلا أن أعدادهم تتزايد بشكل هائل فيخرجون عن نطاق المكان، ويسكنون الحصون القريبة من الولي، وكانت هذه الحصون من قبل مقرا للجند من حرس الأسوار، بل إن منهم من سكن قبة سيدي موسى بن علي القريبة من مدخل ضريح الحاج ابن عاشر. ويغض المسؤولون الطرف عن دخول النساء قاعة الصلاة والإقامة فيها، وهي قاعة كانت قد جُعلت منذ البداية مسجدا لا منزلا يقمن فيه.
لا يقوم معوزو سيدي الحاج ابن عاشر بأي عمل آخر غير مد أيديهم طلبا للصدقة، وكان عددهم، إلى حدود سنة 1921، يتراوح بين مائة ومائتي فرد، وتمثل مائة منهم نواة صلبة، لا يبارح عددها ملحقات الضريح. يدخلونها بحرية ويخرجون منها كذلك، ويلجؤون إليها إن أدركهم الليل أو إن هي أمطرت أو ساءت أحوال الجو. وفي النهار ينتشر هؤلاء البؤساء في المدينة، ويجلسون على امتداد الطرقات والأزقة في شكل مجموعات صغيرة يُذكرون المارة بما عليهم من واجب الصدقة، ويستعرضون في صفاقة عاهاتهم مستدرِّين عطف المحسنين، وتتنوع هذه العاهات بين رمض العيون والأجفان، وما تبقى من أرساغ اليدين، وتملأ وجوههم وأطرافهم تقرحات الزهري، تغطيها خرق قذرة، تمرح فيها كل أنواع الهوام. ويؤمن التسول معيشتهم بالكامل؛ بل إن طعامهم يتحسن أحيانًا بما فضل عن بعض الوافدين من ذوي اليسار. فالولي سيدي بن عاشر لا يعيلهم بأي حال من الأحوال. وعندما يدركهم الليل يأوون إلى مساكنهم، ويتخذون من الحصير والأسمال البالية فراشا لهم، ولا أحد من الجهات الدينية أو الإدارية عليها مسؤولية تجديده.
يقيم المجانين في زنازين نظيفة لا سقف لها، وتوضع في أعناقهم وأرجلهم أطواق لسلاسل حديدية ثقيلة، وهم جميعا من قدامى المتعاطين لمخدر الكيف، ويعاملهم القومة من الحراس بكثير من الرأفة، وغذاؤهم في كل يوم خبزة واحدة، لكن الصدقة الآتية من فاعلي الخير تحسن في بعض الأحيان من هذه الوجبة. ويعود إطعامهم والاهتمام بحالهم لنظار الزوايا، ويأمر الباشوات بحملهم إلى أكواخ سيدي بن عاشر، ولا يحتاجون في ذلك إلى أي إجراء رسمي عدا رغبة أسرهم أو نزولا عند طلب إحدى الطوائف؛ ولا تُجرى لهم أية فحوصات طبية تستحق الذكر.
وفي غياب سعر محدد للإقامة في العنابر (بنيقات)، يتفق الزوار مع مقدم الضريح على مال معلوم. ويؤدي الضيف للضريح “زيارة” حسب ثروته أو شهرته أو درجة تقواه. ويطعم نفسه من ماله الخاص متى أراد وبوسائله الخاصة. وجرت العادة أن يعمل المقيم أو الزائر على تبييض بيت إقامته بالجير قبل أن يغادر المكان.
ولمؤسسة الولي مصادر مالية أخرى غير “زيارة” الحجاج، وتتمثل في الهبات الخاصة، ويقوم بها أصحابها بشكل يكاد يكون دائما، بالإضافة إلى جمع الصدقات من كل أنحاء المدينة في أيام الأعياد الدينية. ويبلغ مجموع هذه الصدقات 35.000 فرنكا سنويا، وتستعمل في صيانة المباني وإعالة الأشخاص. ومن بين نفقات الصيانة طلاء جدران بناية الولي وملحقاتها بالجير، وهي عملية تتم كل سنة بحلول عيد المولد، وتنجز التبييضات الجزئية من جديد في مختلف أوقات السنة؛ إن ضآلة ميزانية الزاوية و روح التبذير فيها جعلاها لا تبرح مكانها من العجز.
ويتكون طاقم القومة على حراسة المجانين والنظافة من رجلين وثلاث نسوة؛ ويؤمن أحد الأئمة المأجورين شعائر الصلاة. ويقوم أفراد أسرة أولاد أعمار منذ القديم بحراسة ومراقبة الضريح؛ وهو مكان لا يسكنه أفراد هذه الأسرة الكثيرة العدد، بل يقومون على أمره مناوبة وأسبوعا بعد أسبوع. ويوجد على رأس هذا الطاقم لجنة للمراقبة قوامها باشا سلا وعضوان من أسرة أولاد أعمار وناظر الزاوية وأحد أعيان المدينة وهو اليوم السي الحاج النيفر .
وفي بعض الأحيان، يبعث بعض الأطباء، من أصحاب المؤسسات الإستشفائية، مرضاهم الميؤوس من علاجهم إلى سيدي بن عاشر، لأنهم يعتبرونه مأوى للإسعاف الاجتماعي. ويجب أن يؤخذ هذا العمل على أنه عمل غير مسؤول وفيه من الشطط ما فيه، لأن سيدي الحاج بن عاشر يخلو تماما من الممرضين، كما يخلو من الأدوية، ولا توجد به ظروف مناسبة لاستقبال أي مريض كيفما كانت حالته؛ اللهم إلا من أولئك البؤساء الذين يدخلونه بحرية ويغادرونه أنى شاءوا، ويعيلون أنفسهم بما يُتصدق عليهم فيه، ويتهدد الموت جوعا غالبية من يبعث بهم إليه من ذوي العاهات. وما أكثر المرات التي طُلب فيها من عامل سلا القيام بأمر هؤلاء المرضى رعاية وإطعاما، فكان يوافق على ذلك بدافع الإحسان لا بدافع الواجب الإداري، ويوضح بلطف كبير أن هذا الأمر لا ينبغي أن يكون قاعدة بل يجب فهمه على أنه إجراء استثنائي.
وترى طبقة الأعيان من مسلمي سلا في هذه الأكوام، من القمامات البشرية المقيمة بسيدي بن عاشر، بؤرة افتراضية لأي وباء قد يكون خطرا على من يجاورها من السكان الذين تلتقي بهم يوميا. ففي صيف 1920م، تم عقد اتفاق بين رئيس المصالح البلدية والباشا ومكتب الصحة للقيام بتنظيف كامل لسيدي بن عاشر. فكان على الباشا أن يجمع المال الضروري للاستعاضة عن الألبسة الرثة والحصائر الشديدة الاتساخ بعد إحراقها، وعليه أيضا اقتناء أواني صالحة لغسل الأجساد بالصابون (إذ لا توجد إلا مرشة واحدة (دوش) لا يمكن للمصالح الطبية العسكرية أن تمنحها إياهم) ويقتضي الأمر كذلك شراء حطب تسخين الماء والجير لتبييض الواجهة الداخلية للجدران. وقد عمل المكتب الصحي على توجيه هذه العملية وإدارتها بأن وفر لها الطاقم التقني وخليط الخل الحاذق لفروة الرأس والزيت المشبع بالكافور لدهن الأجسام (لأن دهن الجسم بالنفط كان قد تم رفضه بدعوى شعائرية) والكبريت للتخلص من الحشرات.
حقيقة أن هذا المشروع لم يُوأد، فقد عمل المكتب الصحي على الحفاظ على ما هيأه بحرص من زيت مشبع بالكافور في أواني معدنية، كما أبقى على قوارير خله الحاذق. إلا أن باقي المواد التموينية ظلت قيد الإنجاز تكتنفها عدة صعوبات وتأخيرات لا حدود لها، وهي أمور لم تحرك ساكنا في الإدارة الإسلامية.
ألم يكن من الأفضل تطبيق مبدأ الوصاية دون المساس بطريقة اشتغاله حاليا، وذلك بإحداث مركز قرب سيدي ابن عاشر يقوم على التعقيم والتطهير والتطعيم؟ إن ما يعرفه عدد البؤساء من السكان من تقلب وما يعرفه تيار الوافدين في الغالب من أماكن بعيدة يمنحونه مادة للاشتغال الدائم: وربما صار مركزا للمراقبة الصحية في أماكن مشبوهة، وربما تحول إلى عين لنا داخل مؤسسة خيرية شعبية إسلامية. وبكل تأكيد، فإن الحاجة إلى ملاذ لكبار السن والميؤوس من شفائهم أمر يفرض نفسه لإفراغ الوحدات الصحية والتخفيف من تدبيرها. أليس جيدا القيام بالتخطيط لهذا الأمر منذ البداية وتنظيمه، بدلا من المس بمؤسسة هي أكثر إغراقا في الدين أكثر مما هي مغرقة في عمل الخير وتحويلها بشكل مفاجئ إلى هيئة إدارية بشكل عميق؟ ألا نخشى خدش إيمان الناس في مشاعرهم ونعكر عليهم صفو تقاليدهم وهي تقاليد لا يجادل فيها اثنان؟ وأي امتياز على العكس من ذلك يمكن أن يمثله تحويل هذا المكان إلى ملجأ؟ فالأماكن لا تستعمل والأدوات والطاقم البشري غير موجود: لذلك وجب إحداث كل شيء من جديد، وبثمن باهض. يبدو أن الاقتصاد سيكون فاعلا في بناء ذلك دون المساس بالمشاعر والتقاليد؛ ولابد أن تشكل الهيمنة على عمل محلي مستقل ممارسة إدارية مباشرة تتعارض تماما مع أحدث التوجيهات السياسية.
من كتاب ذاكرة سلا و التاريخ الراهن
منشورات جمعية سلا المستقبل