بقدر ما تنغرس سلا عميقا في تربة التاريخ الحضري والعمراني والسياسي والاقتصادي والملاحي للكيان الوطني المغربي، تتجذر شخصيتها القيمية العلمية الروحية والدينية والفكرية، بتراكمات معرفية وثقافية ومعمارية ومجالية، تتراكب وتتفاعل وتتناسل بحيوية فائقة لمئات السنين، لتشكل بشواهد عمارة وثقافة و تقاليد تاريخ سلا الراهن، ينبوع هويتها الحضارية الأصيلة ومرآة فرادتها وتميزها المشعة في المخيلة الشعبية والمجال الوطني، حد الإبهار برصيدها الضخم من المساجد والمدارس وأضرحة الأولياء الصالحين، وفروع الزوايا المنبتة في كل ركن وفضاء من المدينة العتيقة، إلى حد اعتبار الثقافة الشعبية سلا كمدينة فاضلة لاحتضان الفقراء والمساكين وأولياء الله الصالحين، وتشريفها بلقب: كل عَتْبَةٍ بِوَلِيٍّ، دلالةً على المكانة المتميزة التي يحتلها البعد الروحاني الصوفي والقيمي في هوية وشخصية المدينة الاجتماعية والعمرانية، و في شحذ مقومات وروافع ريادتها الروحية المتصلة برصيد ورع وتقوى ساكنتها، و بوهج إشعاعها الصوفي واستقطابها الديموغرافي الشعبي الجادب داخل المحيط؛
فعلى مدى زمني يتجاوز ألف سنة من التاريخ الإسلامي المستقل والمشحون بالمناعة والاعتزاز بالذات والكبرياء، نسجت عبقرية سلا وصاغت، عبر تاريخ الدول الوطنية، شخصية تاريخية فريدة، بتركيبة عقدية دينية وعلمية وصوفية وأدبية وأخلاقية واقتصادية/اجتماعية حرفية، عالية الانسجام والتناغم والتكامل، وحفظ السلم المدني والأمن الروحي للساكنة، تدعمها وتسندها القدرة الدينامية والمرنة على جذب واستقطاب اليد العاملة المؤهلة والكفاءات المتخصصة، وتيسير سبل التفاعل و التلاقح و الاندماج والانصهار بين مختلف تيارات الساكنة الأصلية المسلمة، و كذا الساكنة اليهودية التي استوطنت سلا منذ القديم، وساهمت في ازدهارها الحرفي والتجاري والملاحي والمصرفي عبر التاريخ، فضلا عن احتضان موجات من الوافدين الذين اختاروا الإقامة بها و كذا المهاجرين، خاصة إبان العهدين الموحدي والمريني، حيث اقترن العصر الذهبي لمدينة سلا، كميناء تجاري كبير ومزدهر، يؤمن الوساطة التجارية بين المغرب وأوربا، وكرباط جهادي سياسي وعسكري وشعبي أساسي لدعم الأندلس في مواجهة حملات الاسترداد وحماية الثغور، بتزكية وترسيخ معالم الطابع الديني والروحي والعلمي الورع للمدينة وساكنتها،من خلال تشييد القصبات والمساجد و المدارس العلمية ومكتباتها والمحجات الصوفية للزوايا، وأضرحة الأولياء الصالحين مكافأة على نبوغهم وجليل خدماتهم للمدينة، فضلا عن الشحنة الروحانية والعلمية الكبيرة التي منحتها الهجرات الأندلسية المسلمة واليهودية للمدينة، بتأثيراتها الجمة على تطور شخصية سلا وانبثاق جيل جديد
من نخبها وقياداتها العلمية والحرفية والفلاحية والصناعية والملاحية الجهادية والعسكرية والتجارية وحتى الديبلوماسية في العلاقات الدولية، ودخول المدينة تاريخ المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط من أبوابه الواسعة، بفضل أساطيلها وربابنتها وبحارتها، كسيدة حرة ومهابة الجانب للبحار، وكفاعلة أساسية في فرض شروط تأمين مسارات التجارة الدولية.
يفيدنا هذا الترابط العضوي والعريق بين التاريخ الروحي الديني السياسي لسلا بتاريخها الجهادي البحري والتجاري الخارجي، في استجلاء مدى تداخل وتشابك العلاقات بين المنحى الروحي والصوفي الغامر للمدينة و احترافها الجهادي البحري اللاحق، مما يضعنا أمام ملمح صوفي سلاوي مفعم بقيم الجهاد والوطنية والذوذ عن حوزة التراب، وما تجربة المجاهد العياشي كتلميذ نجيب لشيخه ولي الله الصالح سيدي عبد الله بن حسون، إلا عنوانا مختصرا لهذه العلاقة الوارفة القداسة بين الروحي الصوفي والدنيوي السياسي، بل يمكن القول، أن هناك علاقة طردية جامعة بين إشعاع سلا الجهادي البحري العالمي وتعاظم استقطاب شخصيتها الروحية الصوفية للأولياء الصالحين، مما يضعنا أمام تمثل معرفي و قيمي دينامي وخلاق ومختلف، لدور التصوف والعامل الروحي في صياغة شخصية المدينة القيمية وهويتها وأدوارها، كمحرك أساسي ونشيط لديناميات التاريخ الوطني المغربي .
من كتاب ذاكرة سلا و التاريخ الراهن
منشورات جمعية سلا المستقبل