لا يستقيم منهجيا الحفر في مكنونات ذاكرة التاريخ الراهن لحاضرة سلا، دون وقفة ولو موجزة، على مدى عراقة مساهمة سلا في تأسيس مقومات مناعة الكيان المغربي أمام الخارج، وفرادة أدوارها في تشكيل فسيسفاء كينونة الوطنية المغربية عبر التاريخ، بما يجعل سلا في المحصلة، إحدى محركات التاريخ الوطني المغربي بامتياز.
فمن المفيد التذكير بأن سلا وعدوتها شالة، من أقدم حواضر المغرب القديم المحتضنة لحفريات بشرية تعود ل160.000 سنة، وبأن تاريخ تأسيسها التقريبي يعود إلى 1500 سنة قبل الميلاد، و بهذه الصفة العريقة حتى النخاع، عانقت سلا واحتضنت، بموقعها الاستراتيجي المزدوج على الساحل الأطلسي ومصب نهر أبي رقراق، تاريخية كل التحركات والهجرات البشرية من الداخل والخارج، و تفاعلت شخصيتها القيمية واستوعبت كل موجات الغزو الأجنبي منذ القرطاجنيين والفينيقيين والرومان والوندال والفتوح الإسلامية والإمارات الخوارجية، وصقلت هويتها الحضارية الدامجة بتعاقب الدول الوطنية المغربية منذ الأدراسة والمرابطين والموحدين، بعصرها الذهبي المريني في سلا القرن الرابع عشر الميلادي، واكتسبت طابعها البحري المقاوم والمجاهد مع الهجرات الأندلسية وبداية تفكك الدول الوطنية الوطاسية والسعدية ،وتزايد الأطماع الاستعمارية، لتتحول إلى قلعة شامخة لوطنية مغربية مسلحة بالكبرياء والشجاعة والثقة بالنفس والمعرفة والعلم والنبوغ والأنس والعفة والارتباط الشديد برموز الهوية الجماعية، فضلا عن تشكل هويتها الروحانية على مدى قرون وأجيال ، كمدينة ساحلية أطلسية شعبية، ترفدها ثقافة حرفية وملاحية و تجارية وزراعية أصيلة وعريقة، استقطبت عبر العصور أمواجا وأفواجا من الوافدين من مختلف أصناف المهن والحرف والصناعات، وآوت واحتضنت بحنان فئات أخرى، خصوصا العلماء والفقهاء والصلاح والزهاد والمقاومين وأولياء الله الصالحين، بما يجعل المدينة القديمة اليوم، ضريحا روحانيا وإيمانيا متعدد الحقب والشواهد والمعالم، ومفتوحا في طقوسه وعاداته وتقاليده للعموم؛
وقد كان لاختمار وتفاعل هذه العوامل والأسباب، دور كبير في انفعال سلا القرن التاسع عشر بمجريات الاحتكاك المباشر بتصاعد الأطماع الاستعمارية، خاصة الفرنسية آنذاك، حيث سيشكل حادث قنبلة سلا من قبل الأسطول الحربي الفرنسي في 26 نونبر سنة 1851،بعد حادث الاستيلاء على سلع مركب فرنسي صغير، الإعلان الأول لدخول سلا تاريخ مقاومة الدخول الأجنبي، قبل أن يشكل إعلان الحماية الفرنسية على المغرب في 31 مارس 1912، وقرار نقل عاصمة الدولة المغربية من فاس إلى الرباط، ميلادا جديدا لشخصية وكينونة حاضرة سلا في التاريخ المغربي الراهن، بكل زخم التوترات والمواجهات والاصطدامات السياسية والثقافية والأخلاقية بين ضفتي نهر أبي رقراق الذي يجمع سلا بالرباط، وبكل دفق النضالات والتظاهرات والتضحيات، التي قدمتها نخب سلا في مواجهة الاحتلال الفرنسي الرابض في العاصمة الرباط، فداء لوطنية مغربية جريحة لأول مرة في التاريخ.
ولن ينسى التاريخ الوطني المغربي، أن أول مظاهرة شعبية ضد الاستعمار الفرنسي وضد الظهير البربري لسنة 1930، التي سميت بحركة اللطيف، خرجت من مساجد سلا، فضلا عن عدة مظاهرات لاحقة بقيادة مجموعة من حفظة القرآن و وطنيين ساهمون في التوقيع على وثيقة الاستقالال وهم السادة: أبو بكر القادري/ عبد الرحيم بوعبيد/ الطاهر زنيبر/قاسم الزهيري/ أبو بكر الصبيحي/محمد البقالي/الصديق بلعربي/ بن عمر الطيبي.
إضافة الى ما قدمه من تضحيات المجاهدون أمثال الحاج أحمد معنينو، وعثمان الأحرش.
وللعلم فإن اندلاع هذه المظاهرات العنيفة، تخللها إطلاق الرصاص الحي من قبل القوات الاستعمارية على المتظاهرين، وإعدام ستة مقاومين، تتقدمهم الشهيدة خناتة الروندا.
ضمن هذا المناخ الوطني والقيمي الفياض بملاحم المناعة والمقاومة والبطولة والتضحيات، تستبطن سلا ذاكرة التاريخ الراهن لسلا وتاريخية المغرب كإحدى أعرق محركات التاريخ الوطني، بكل جدارة وكبرياء، حاملة معها رسالة وفاء معمدة بالتضحيات لشرف الوطنية المغربية ولقدسية قيم الحرية والاستقلال، رسالة وفاء عابرة للأزمنة والأجيال، تحتضنها صفحات هذا الكتاب بمداد الفخر والاعتزاز.
من كتاب ذاكرة سلا و التاريخ الراهن