منذ بداية القرن العشرين عرفت مدينة سلا العريقة توسعا عمرانيا كبيرا بفعل النمو الديمغرافي غير العادي نتيجة هبات الهجرة القروية، والهجرات من مدن أخرى بعد تحول مدينة الرباط الى عاصمة المملكة. كان من نتائج ذلك اختلال تنظيمها العمراني القديم واكتساح الاسمنت مجالها الأخضر من عرصات وجنانات.
كانت حومات (أحياء) مدينة سلا تحتوي على مجموعة من المعالم التاريخية، تتخللها مجالات خضراء على شكل عرصات وجنان (السواني). ميز المدينة كثرة أضرحة الأولياء والزوايا الصوفية وما يناهز ستين مسجدا، أقدمها الجامع الأعظم (الكبير) بالطالعة الذي بناه “بنو عشرة” حوالي سنة 1017 ميلادية، وقام بتجديده السلطان الموحدي “أبو يوسف يعقوب حوالي 1196 م.
عاشت سلا في توازن بيئي هائل، حيث كانت أحياؤها بداخل الأسوار تتزين بالحدائق الغناء على شكل سواني تزدهي بأنواع مختلفة من الخضراوات والفواكه مثل الليمون والتفاح والمشمش والحامض.. كما اشتهرت ضاحيتها في عامر والولجة وبطانة بوفرة الجنان، كانت العائلات السلاوية تتخذها للنزهة (النزاهة كما يقول أهل سلا). كان عدد السواني المسقاة سنة 1912 يتجاوز 42 سانية، وأخذ عددها يتضاءل منذ 1930، بل انقرضت نهائيا من التشكيلة المعمارية السلاوية منذ حوالي 40 سنة، لعل آخر سانية شيدت على ترابها مدرسة للا سكينة.
وقد أشار السيد محمد فتحة في كتابه القيم “جوانب من تاريخ سلا وعمارتها – من التأسيس الى بداية القرن العشرين”: “يبدو أن اقتصاد سلا، وعلى غرار الوضع الاقتصادي العام بالمغرب، كان يستجيب لحاجة سكان المدينة، التي يظهر انها تعودت منذ القديم على توفير الضروري من المعاش في كافة القطاعات الانتاجية ومزجت في آن واحد بين الانتاج الزراعي وما تتميز به المدن عادة من صنائع وحرف”…
“كان الكثيرون من سكان سلا في المرحلة الحديثة يعيشون من العمل الزراعي، سواء في ملكياتهم الخاصة التي لم تكن متسعة جدا ولا تتجاوز الهكتارين إلا في النادر، أو باكتراء أراضي الأحباس أو الخواص لمدة معينة قد تتجاوز أربع سنوات من أجل زيادة الانتاج، وقد شكل إنتاج قصب السكر والقطن والكتان والقنب والعنب لمدة طويلة أساس منتجات التصدير، لكن جزءا من هذا الانتاج كان يتأثر أحيانا بالجوائح الناجمة عن كثرة الأمطار (1864م) وبتقلبات السوق العالمية، إذ تراجع تسويق القطن وعوض بزراعة الذرة والقطاني والكروم بعد نهاية حرب الانفصال الأمريكية، كما أضحى الاعتماد على بذور القطن الأجنبية أمرا لا غنى عنه، لما ثبت للمنتجين السلاويين من زيادة في الانتاجية، علاوة على أن استغلال السلاويين للأراضي المجاورة للمدينة بالولجة وناحية إسمير منها والساحل وتابريكت وبطانة وجهة عامر جعلها تخترق ظاهرها، وتربط علاقات تكامل اقتصادي مع الأرياف المحيطة بها. لكن هذه العلاقات لم ترق إلى مستوى توجيه أنشطة البادية وفقا لمشروع اقتصادي حضري، بل تعبر عن انشغال مزمن بالاستثمار في العقار مخافة تغير الأحوال. لقد أتقن السلاويون الفلاحة والغراسة منذ القديم وتطورت معرفتهم بتقنيات السقي بواسطة دولاب الماء (السانية) المستغل لمياه الآبار، أو عن طريق كراء حقوق استغلال الماء الداخل إلى سلا عبر قناة سور الأقواس، وهو ما أهل المدينة لإنتاج الخضر والكروم ومختلف أصناف الفواكه بوفرة جعلتها من بين المواد المصدرة إلى خارج البلاد، وعلى سبيل المثال، فقد كان نصيب فرنسا من خضر سلا والعرائش، حوالي ثمانمائة قنطار في حدود 1767م. وفي المقابل فقد كان إنتاج المدينة من الحبوب ضعيفا ولا سيما من القمح، واعتدت على ما يستورده تجارها من هذه المادة الحيوية من الأرياف المجاورة. أما بالنسبة لنشاط الرعي، فالظاهر من حجم صادرات الأصواف من مرسى سلا خلال القرنين 18 و19 أن العناية بهذا النشاط كانت كبيرة وأن المخزن كان يشرف على تجارة الصوف ويؤطرها، لكننا لا نعرف بالضبط نسبة الانتاج المحلي من قرابة ثلاثة أطنان من الصوف صدرت سنة 1767م”.
“وقد لعبت غابة المعمورة دورا لا يستهان به في اقتصاد المدينة إذ وفرت الأخشاب للنجارين في دار الصناعة في السابق، وفي منجرة الرباط، وزودت بها الصناع المشتغلين بإعداد “أدوار السواني” فضلا عن “البلالطية” بداخل المدينة، كما أمدت السكان بما هم في حاجة إليه من فحم، وساهمت في تشغيل أعداد من “المزيبرية”، و”الكواشة”، وهم العمال المشتغلون بقطع الاخشاب وصناعة الفحم، ناهيك عما كانت تدره من عائدات مالية بالنسبة للمخزن المحلي والمركزي، مما جعله شديد العناية بكل ما يمكن أن يؤثر فيها من انعدام أمن أو لصوصية أو قلة أمانة لدى المشتغلين بها”.
وقد لعبت سلا دورا هاما ومركزيا في بعض فترات التاريخ على امتداد الدول المختلفة التي تعاقبت على حكم المغرب من المرابطين الى العلويين مرورا بالموحدين والمرينيين الذين شكلت إبان حكمهم إحدى حصونهم الأساسية ومعبرا أساسيا للأندلس، وميناءا مزدهرا في التجارة مع البلدان الأوروبية، خاصة الأندلس وفرنسا والبلدان المنخفضة. ومنذ بداية الحماية سنة 1912، وانتقال عاصمة المملكة من فاس الى الرباط، انتقلت سلا إلى المرتبة الثانية بعد الرباط. تم التخلي عن سلا وتهميشها تدريجيا من قبل الادارة الاستعمارية على مر السنين، إلى درجة اعتبارها ضاحية من ضواحي الرباط.
بعد الاستقلال سنة 1956 لم يتغير هذا الوضع الاداري حيث ادمجت سلا في اقليم الرباط مركز العمالة. أحدث الوجود الاستعماري في المغرب تحولات كبيرة في البنيات الاجتماعية في المغرب جراء العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكان من نتائج ذلك الهجرات المتعددة من البوادي والمدن المختلفة التي وفدت على سلا التي كان تعداد سكانها 19.000 نسمة سنة 1912 وأصبحت 32.000 سنة 1936 وانتقلت إلى 47.000 سنة 1952 لتقفز إلى 77.000 نسمة سنة 1960. أدت هيكلة الادارة المغربية لدولة الاستقلال إلى توافد الموظفين الى الادارة المغربية للعاصمة الرباط، استقطبت سلا العديد من الموظفين للاستقرار بها نظرا لشروط العيش فيها المناسب وبساطته، فقفز عدد السكان بين 1960 و1971 إلى 150.000 نسمة. ومنذ السبعينات من القرن الماضي ستعرف سلا موجات من التدفق غير المنتظم للهجرات الريفية ومن مدن اخرى حيث سينتقل عدد السكان إلى 580.000 نسمة سنة 1994 ويصل إلى 890.403 سنة 2014 ليتجاوز المليون في أخر إحصاء سنة 2024. وقد شكل هذا الضغط الديمغرافي عاملا أساسيا لامتداد الاسمنت خارج أسوار المدينة، بداية بتابريكت وبطانة في الستينات وسيدي موسى بداية من السبعينات ثم في نفس الوقت القرية، مولاي اسماعيل وطريق القنيطرة ثم حي السلام وطريق مكناس الى منطقة حصين حيث تم استنبات مدينة سلا الجديد. أحدث هذا الانفجار السكاني في المدينة تأثيرات سلبية كبيرة على المستوى البيئي والاجتماعي والأمني. أصبحت مدينة سلا التاريخية تعرف بمدينة الفقر والجريمة والتلوث. أين هي تلك المدينة الهادئة والنظيفة والتي يحلو العيش فيها. اتسعت المدينة بشكل لا عقلاني وانتفت الشروط التي كانت توفر حلاوة عيش ساكنة سلا من زراعة وصيد سمك وحرف وصناعة تقليدية وتجارة وغيرها.
أصبحت المدينة تعيش فوضى كبيرة في التجارة، انتهى زمن تقسيم الحرف وتصنيف أنواع التجارة، كل الطرقات مملوءة بالمعروضات، المدينة عبارة عن سوق مفتوح، والتلوث اصبح سيد الميدان، لا مجال للمساحات الخضراء داخل السور، إلا من حديقة يتيمة في باب بوحاجة مهملة متروكة لشقاء الوعي والزمن يعبث بها، ويبدو ان السلطات المحلية والمركزية انتبهت لموضوع الفضاءات الخضراء فبادرت الى عدة مشاريع مهمة لمساحات خضراء هامة في مداخل المدينة باستحداث حدائق في باب المريسة وحي السلام وطريق القنيطرة وسلا الجديدة، إلا أن المنعشين العقاريين وشراهة السطو على أي مساحة للبناء، وكذا المتربصون بالبناء العشوائي رغم حذر السلطات الترابية لازالوا يسهمون في اختناق المدينة بالإسمنت دون تمكين المدينة بالاستفادة من المساحات الخضراء الضرورية المحددة عالميا في 15م2 للمواطن، مما يعمق اختلال التوازن بين مختلف الحيوات المكونة للتنوع البيولوجي من حيوان ونبات وإنسان.