ليس من المغالاة في شيء القول بأن القرن العشرين ، كان قرنَ انبعاثِ سلا بامتيازٍ، وانفلاتِها الشجاع الباذخ التضحيات، من القدرية العمياء للهامشية والانسحاق، بكل جسارة وجدارة واستحقاق؛ فمع انتقال عاصمة الدولة المغربية من فاس إلى الرباط عقب إعلان الحماية الفرنسية سنة 1912، تحولت حاضرة سلا بكل مكر التاريخ، من هامش مُهْمَلٍ ومَنْسي، يبكي أمجاده البالية ويندب حظه العاثر في الدهر الغادر، إلى قلب نابض وضمير يقظ لتبلور وعي الوطنية المغربية العصرية الحرة والمقاومة، و انبثقت من بيوتها وأزقتها ومدارسها وجوامعها ومكتباتها ومحترفاتها ومقاهيها و أسواقها وملاعبها،
على مدى عقود، شعلة جيل عصري جديد، ألهب المدينة العتيقة من حيث لا يدري أحد، نار نضاليتها السياسية وأنوار حداتثها الفكرية والثقافية والفنية، لتكْنُسَ عبقرية سلا ظلامات انطوائها وخمولها، وتدشن عصرها الذهبي المتعدد الواجهات والمواهب والساحات، مع تفجر ديناميات طلائع نخبة وطنية شابة متعلمة، متحمسة، شغوفة وتنافسية على كل المستويات، نخبة مثلت طفرة ذكاء ومنافسة و سبق وإبداع بأصالة حضارية غير مسبوقة في تاريخ المدينة والوطن، تشكلت كأنوية طليعية حبلى بالطموحات والكفاءات والأحلام، من شباب وطنيين أفذاذ وأمجاد، بزغوا واشتهروا وكسبوا احترام الخاصة والعامة، وتحولوا إلى أيقونات زمنهم وزمننا، بقدر ما داع صيتهم وطنيا ودوليا في السياسة والديبلوماسية والثقافة والصحافة والإعلام السمعي البصري إذاعةً وتلفزةً، ومجالات الأدب والفن، و تخصصات العلوم الإنسانية والحقة، وأصناف المهن العصرية والحرف التقليدية، وفنون الطرب والغناء الشعبي والعصري والعزف، بفائض تفوق السلاويين الباهر في إحياء أمجاد تراث الطرب الأندلسي، وفن الملحون، المنغرسيْن كجدري هوية تاريخية وثقافية مثخنة بالجراح وفواحة برحيق البوح والفرح؛ فضلا عما تحفظه ذاكرة التاريخ الراهن لسلا من احتضان المدينة المبكر لدينامية رياضية رائدة، نافست رغم محدودية الفضاءات والإمكانيات العاصمة الرباط، شملت الذكور والإناث، ووهبت للمدينة وللمغرب عددا هاما من الأندية العريقة والأبطال المتفوقين في مختلف الرياضات الفردية والجماعية؛
لذلك حينما ندشن اليوم برنامج حفظ ذاكرة سلا وتاريخها الراهن ، بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فلكي ندشن أول الخطو نحو إرساء الالتزام أمام المدينة والوطن والتاريخ، بواجب نهوضنا الجماعي بمسؤولية تخليد بصمات وتراث وإبداعات ومآثر هؤلاء الأعلام والنخب والقيادات، نساء ورجالا، الذين لولاهم، ما كنا لنكون كما نحن، وما كانت سلا لتشكل إحدى المحركات الجبارة لتاريخنا الوطني العصري، لذلك نحن على أعتاب لحظة تاريخية سلاوية جليلة، عنوانها حفظ ذاكرة الجيل الذهبي لتاريخ سلا الراهن، وتوريثها ككنز وذخيرة وقدوة للأجيال الصاعدة، عبر كل الوسائط الممكنة والمتاحة، وفي مقدمتها صياغة حلمنا الجماعي المشروع بإقامة متحف معماري لأعلام ذاكرة سلا، يرفده متحف رقمي سيال وبوابة إلكترونية ووسائط سمعية بصرية تنسج من جديد وتحفظ للمستقبل، ملامح حكايات وملاحم وذاكرة أعلام سلا الأمجاد، نساء ورجالا، مستحضرين بكل إجلال واحترام نبل عطاءاتهم و عظيم تضحياتهم من أجل انبعاث حاضرة سلا، وتبوئها المكانة التي تستحقها كمحرك دينامي لرفعة الوطن المغربي، فتحية تقدير واحترام وإجلال واعتراف بكن وبكم جميعا، رائدات ورواد سلا في التاريخ الراهن، اللواتي والذين لا يسعفنا المجال لتدوين أسمائكم هنا جميعا، وعهدا مقدسا أن نواصل، كجمعية مدنية جادة ، مؤمنة بقداسة شعار: (من لا ذاكرة له ، لا مستقبل له) وبانفتاح مسؤول على الجميع، ودون تحيز أو إقصاء، مسعانا الحر الوفي النبيل ،في مواصلة مأسسة حفظ ذاكرة أعلام حاضرة سلا العريقة والشامخة، في مختلف الأصعدة والمجالات، بكل أمانة وإخلاص والتزام.
جمعية سلا المستقبل